نجح لقاء بعبدا «الخماسي» في الفصل بين مسارات المعالجة السياسية والأمنية والقضائية لحادثة قبرشمون، وبالتالي تمكّن من إعادة مجلس الوزراء الى الخدمة بعد التعطيل المُتمادي تحت أعين مؤسسات التصنيف الدولي. لكنّ اجتماع القصر لم يكن الخاتمة، بل انّ اختبارات عدة لا تزال تنتظر «الاتفاق الخماسي» في سياق السعي الى خَتم جرح الجبل المُستجد.
تعددت التفسيرات لِما انتهى إليه «لقاء القصر»، تِبعاً لمواقع أصحابها وعواطفهم السياسية. البعض اعتبر انّ النائب السابق وليد جنبلاط هو المنتصر الأول، والبعض الآخر جزمَ بأنّ النائب طلال ارسلان كان الرابح الاساسي، وهناك مَن جَيّر المكسب الى الرئيس ميشال عون في اعتبار أنه كَرّس موقعه مرجعاً حاضناً للجميع، بمَن فيهم الذين كانوا يهاجمونه قبل ليلة، بينما أعاد الآخرون فضل الانجاز الى جهد الرئيس نبيه بري او حتى الى بصمات «حزب الله».
وما سمح بتوسيع رقعة الاجتهادات هو انّ «الاتفاق الخماسي» جرى على الطريقة اللبنانية، اي انه حَمّال أوجه ومزود «باباً دوّاراً»، بحيث يصعب ان يكون أحد أطرافه فائزاً او خاسراً بالضربة القاضية، بل انّ الربح والخسارة في مثل هذا النوع من التسويات يُقاسان بالنقاط والفواصل، الأمر الذي يشرّع الباب امام التأويلات.
وإذا كان طابع المصارحة غَلب على اجتماع بعبدا الذي ضَم الرؤساء الثلاثة ورئيسَي الحزب التقدمي الاشتراكي والحزب الديموقراطي اللبناني، إلّا انّ طريق المصالحة الحقيقية بين جنبلاط وارسلان لا تزال طويلة وشائكة، ويحتاج عبورها الى «المرور الآمِن» في عدد من المحطات الصعبة والمعقدة، خصوصاً تلك المتصلة بالشأن الدرزي.
وعُلم انّ القطبين الدرزيين لم يتبادلا الكلام مباشرة إلّا قليلاً خلال وجودهما في القصر الجمهوري، وانّ الإيقاع الرسمي طغى على طريقة تَصرّف كل منهما حيال الآخر. ومع ذلك، تفيد المعلومات انه كان هناك إقرار مشترك من الرجلين، أثناء الاجتماع، بأنّ الجبل ليس قابلاً لأيّ احتكار، وانّ الدخول إليه لا يتم عبر بوّابات.
ويؤكد ارسلان لـ»الجمهورية» انّ التدقيق في البيان الصادر عن لقاء بعبدا «يُبَيّن بوضوح انني لم أتراجع عمّا سبق لي أن طرحته، وانّ مطالبي تحققت»، لافتاً الى انّ فرضية المجلس العدلي لم تسقط، «إذ إنّ البيان يوضِح أنّ مجلس الوزراء سيتخذ القرار المناسب في ضوء التحقيقات، وكنتُ منذ البداية أطلب أن يُحال الامر الى الحكومة لِتَبتّه، بمعزل عمّا إذا كنّا سنربح خيار المجلس العدلي أم سنخسره».
ويعتبر أنّ «الآخرين هم الذين تراجعوا عن سقوفهم العالية»، مشيراً الى انّ «من كان يرفض أن يلتقي بي إلّا في عين التينة عاد والتَقاني في قصر بعبدا، علماً انّ اللقاء برعاية الرئيس عون كان مطلبي من الاساس. كذلك، فإنّ مَن كان يعارض الاحتكام الى المحكمة العسكرية عاد ووافَق عليها، مع ما يُرتّبه ذلك من قبول بتسليم جميع المطلوبين التابعين له».
ويضحك ارسلان، في معرض تعليقه على القول، إنّ اجتماع القصر الجمهوري مَنحه السلّم للنزول عن الشجرة المرتفعة التي تَسلّقها، مشددا على انه «لا يحتاج أصلاً الى سلّم، لأنه لم يكن عالقاً في أي مكان»، ومضيفاً: «أنا أمشي واثق الخطوة...».
ويشدّد على انّ الانجاز الأهم الذيث حصل يَتمثّل في عدم خلط المسار السياسي بذاك القضائي - الامني، مؤكداً «انّ الدم الذي أريق ليس ملكي ولا يمكن ان أزجّ به في أي بازار، وما يهمني انّ لقاء القصر لم يتم على حساب الأصول القانونية أو المحاسبة المطلوبة».
وينفي رئيس الحزب الديموقراطي ان يكون قد عارض خيار المحكمة العسكرية ثم وافق عليه، «إنما تمسكت بالمجلس العدلي، بمعزل عن طبيعة الدرب الذي يمكن ان يقود اليه، سواء عبر القضاء العسكري او من خلال مجلس الوزراء». ويلفت الى انّ الرؤساء الثلاثة الذين صادَقوا على بيان بعبدا يجب ان يكونوا الضمانة ضد خطر لَفلفة الملف، «وهم معنيون بالإشراف على تطبيقه بدقة، الأمر الذي يستوجِب منهم حماية صدقيتهم»، معتبراً انّ «اللقاء الخماسي» يشكّل البداية لا النهاية، وتنبغي مقاربته على هذا النحو.
وينبّه ارسلان الى انّ كل من سيحاول عرقلة استكمال المسار القضائي - الامني، الهادف الى إحقاق الحق وتطبيق العدالة، إنما يبيح بذلك سَفك الدم، مشدداً على انه أبلغ الى المجتمعين في قصر بعبدا انه رفع الغطاء عن كل من يَجد القضاء ضرورة للاستماع إليه من أنصاره، مهما بلغ عددهم.
ويؤكد انه يرفض مصالحة «تبويس اللحى» مع جنبلاط، مشيراً الى «انّ إتمام المصالحة العميقة مشروط بالتفاهم على عدد من الملفات الحيوية التي تهمّ طائفة الموحدين الدروز وعموم اللبنانيين».
ويشيد ارسلان بطريقة تعامل «حزب الله» معه منذ اللحظة الاولى للحادثة، مؤكّدا انّ السيّد حسن نصرالله لم يبدّل موقفه طيلة مراحل الأزمة، «وهو داعم لنا على طول الخط»، نافياً ما يُشاع من انّ الحزب ضَغط عليه للقبول بالحل، قائلاً: ليت من يروّج هذه المزاعم يملك ربع الصدقية والشفافية اللتين يتحلى بهما الحزب. وللتاريخ، أسجّل أنّ ما يعلنه الحزب فوق الطاولة هو نفسه ما يبلّغنا إيّاه في الجلسات المغلقة».
ويتابع مستغرباً: «بالنسبة الى أصحاب الكيل بمكيالين، يحق لرئيس الحكومة سعد الحريري ولرئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع الوقوف الى جانب جنبلاط وتبرير تصرفاته، بينما لا يحق لـ»حزب الله» ان يدعم حليفه في قضية عادلة؟... ما هذه المقاربة التعسفية؟ يروحوا ينضَبّوا... عيب».
كذلك، يشيد ارسلان بدور عون الذي أدار الامور بحكمة، وبقي حريصاً على ان يكون جامعاً للمتنازعين وان يقف على مسافة واحدة منهم، «ولو كنّا وإيّاه في خط سياسي واحد، وهذا سلوك يُسجّل له».